الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن
.تفسير الآيات (8- 15): {اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)}.التفسير:تعود الآيات مرة أخرى إلى استعراض قدرة اللّه، بعد هذه الوقفة الفاضحة للمشركين، ولمقولاتهم المنكرة، التي يستقبلون بها آيات اللّه، ويلقون بها رسول اللّه.وفى هذا الاستعراض تنكشف مظاهر كثيرة لقدرة اللّه سبحانه وتعالى، وتمكّن سلطانه في هذا الوجود، وإحاطة علمه بكل شيء فيه.{اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ} تغيض الأرحام: أي تضع ما فيها من حمل.. يقال غاض ماء البئر، أي ذهب وجفّ.فهذا مظهر من مظاهر قدرة اللّه، وسعة علمه.. فهو سبحانه يعلم ما تحمل كلّ أنثى، وما تضع من مواليد وما يتخلّق في الأرحام من أجنّة.وفى التعبير عن وضع الحمل بالغيض، إشارة إلى أن الرحم حين يشتمل على الجنين، إنما يحمل في كيانه حياة، بها تزهو الحياة وتعمر الدنيا، كالماء الذي به تحيا الأرض، وتزدهر وتثمر.. فإذا سكن الجنين إلى الرحم، زاد الرحم ونما، وامتلأ، وإذا ولد الجنين، غاض الرحم، وانكمش.وقدّم غيض الأرحام على زيادتها، لأن ملاحظة الغيض للرحم أظهر للعين، حيث يبدو في تمام الحمل على صورة واضحة، ثم إذا وضع الجنين تبدل الحال.وفى قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ} إشارة إلى أن هذا العلم الإلهى، علم قائم على حكمة، وعلى تقدير وتدبير، وليس علما جزافا، فهو مع إحاطته بكل شيء، ضابط لكل شيء، ومقدّر لكل أمر قدّره.. وهذا هو الفرق بين علم اللّه، وعلم العالمين، فإذا كان في العالمين من يعلم ما في الرحم.فإنه لا يعلم ما في الأرحام جميعها في هذه الدنيا كلها، ولو احتشد لذلك العلماء، وتوفروا له بكل ما وضع العلم في أيديهم من وسائل.. ولو فرض أنهم علموا ما في الأرحام الآدميين جميعا- وهذا هو المحال- فأنّى لهم أن يعلموا ما في عالم الحيوان؟. {اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ}.وفى إحاطة علم اللّه تعالى بالحمل الذي تحمله كل أنثى إشارة إلى نفوذ علم اللّه إلى خفايا الأمور، وأنه سبحانه يتولى هذه الأجنّة، إيجادا، وحفظا، داخل الأرحام وخارجها.فعلم اللّه سبحانه وتعالى علم شامل، كامل، لأنه علم الخالق، المبدع، المصور.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد هذا.{عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ}.فذلك هو علم اللّه سبحانه، علم شامل كامل.. يعلم ما بطن وما ظهر، وما كان غائبا عن حواسنا، وما كان مشهودا لها.. فهو سبحانه {الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ} الكبير الذي وسع كرسيّه السموات والأرض، {المتعال} الذي علا بسلطانه على كل ذى سلطان، وبعلمه على كل ذى علم.{سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ}.فاللّه سبحانه، في كبريائه، وفى علوّه، محيط بكل صغيرة وكبيرة في الوجود.يتساوى لديه في ذلك بعيد الأمور وقريبها، خفيها وظاهرها، إذ لا قرب ولا بعد عند من احتوى الوجود كله، ولا خفاء ولا ظهور لدى من ملك الأمر جميعه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [3: الحديد].فمن أسرّ القول كمن جهر به.. اللّه يعلم سرّه، علمه لجهره: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [13- 14: الملك].ومن تدثّر بالليل واستتر به عن العيون، كمن هو سارب: أي متحرك، بالنهار.. اللّه يراه في ظلمة الليل، كما يراه في ضوء النهار.. {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.{لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.أي إن لهذا الإنسان الذي يسرّ القول ويخافت به، أو يظهره ويجهر به، أو يحتجب عن الأنظار في ظلمة الليل أو يتحرك بين الناس في وضح النهار- هذا الإنسان موكّل به من قبل اللّه، جند يحفظونه، ويحرسونه، ويرصدون كلّ نفس يتنفّسه، وكلّ خاطر يخطر له، أو طرفة عين يطرفها، أو خفقة قلب يخفقها.. إنه حيث كان، وعلى أي حال كان، هو تحت هذه المراقبة التي لا تغفل، وبين هذه الحراسة التي لا تنام.. فأنّى له أن يخلص إلى نفسه، أو يخلو إلى وجوده، دون أن ترقبه هذه العيون الراصدة المتعقبة له؟وفى قوله تعالى {مُعَقِّباتٌ} إشارة إلى أن هؤلاء الجند، يرون الإنسان من حيث لا يراهم، وأنهم أشبه بمن يتبع الإنسان من وراء عقبه، دون أن يراه أو يحسّ به، وهم- مع هذا- بين يدى الإنسان ومن خلفه.وقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.أمر اللّه هنا، معناه تقديره، وحكمه، كما يقول سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [54: الأعراف] والمعنى: أنهم يحفظونه بما أمروا به من تقدير اللّه، وحكمه، وقضائه في عباده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} [2: النحل].. وقوله سبحانه: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا} [52: الشورى] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} في هذه الآية الكريمة أمور:ففى قوله تعالى في أول الآية: {لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ما يشعر بأن الإنسان واقع تحت قوى خفية مسلطة عليه من اللّه، وأنه مقهور مغلوب على أمره بحكم هذه القوى الخفية المتعقبة له.وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} ما يدفع هذا الشعور، الذي يقع في نفس الإنسان، من تعقب هذه القوى الخفية له.. فالإنسان ذو إرادة عاملة، يجدها دائما معه، ولا يجد لهذه القوى الخفيّة أثرا ماديا يحول بينه وبين ما يريد.. فهذه القوى إنما هي أشبه بالآلات المصورة، أو المسجّلة.. تصور ما يقع، وتسجّل ما يحدث، دون أن تتدخل في مجريات الوقائع أو الأحداث.. فالإنسان هو الذي يجريها كما يشاء، ويحدثها كما يريد!.ومعنى هذا، أن الناس عموما هم الذين يكتبون أقدارهم، ويشكلون وجودهم، ويختارون الطريق الذي يسيرون فيه!.وعلى هذا، يكون معنى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} هو إطلاق لإرادة الإنسان، وأن اللّه سبحانه وتعالى منح الإنسان حرّية الحركة والعمل حيث يشاء، وكما يريد، حسب تفكيره وتقديره، وأن ما يفعله يمضيه اللّه سبحانه وتعالى له: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ}.فالناس يبذرون الحب.. واللّه سبحانه وتعالى يعطيهم ثمر ما بذروا.. إن حلوا، وإن مرّا.وفى تعليق تغيير أحوال الناس بتغيّر ما بأنفسهم، إشارة إلى أن النفس الإنسانية هي جهاز التفكير، والتقدير، ومركز الإرادة والتوجيه، وأنها هي السلطان الآمر للإنسان، والموجّه لكل أعماله وأقواله، فإذا غيّرت النفس اتجاه مسيرها، تغيّر تبعا لذلك سير الإنسان في الحياة.وفى إضافة التغيير إلى اللّه سبحانه وتعالى، إشارة إلى أن إرادة اللّه سبحانه وتعالى هي التي أجرت هذا التغيير، الذي أحدثه الإنسان، كما أنها هي التي حركت إرادة الإنسان نحو هذا التغيير.ومعنى هذا، أن إرادة اللّه سبحانه وتعالى، إرادة شاملة، تدخل في محيطها كل إرادة، فلا إرادة لمريد، إلا تبع لهذه الإرادة.. وأن إرادة الإنسان إرادة متحركة عاملة، في محيط إرادة اللّه العامة الشاملة.. ولكنها لا تخرج في تحركها وعملها عن إرادة اللّه..! وفى هذا يقول اللّه سبحانه: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [4: الروم] ويقول سبحانه: {وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} [29: التكوير].قوله تعالى: {وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ} هو تقرير لشمول الإرادة الإلهية وعمومها، وأنها إرادة نافذة ماضية، وأن إرادة الناس لا تتحدّى إرادة اللّه، ولا تحول بينها وبين أن تمضى ما قضت به، وليس للنّاس فيما يقضى به اللّه ويريده من ولىّ ينصرهم، ويدفع ما يريد اللّه بهم من سوء.هذا، مع أن للإنسان إرادته، ومشيئته، التي يجدها، ويملك أموره بها، دون أن تعطل إرادة اللّه العامة الشاملة إرادته، أو تكرهه على أمر لا يريده، فإن تعطلت إرادته، أو وقعت تحت سلطان قاهر لها، رفع عنه التكليف.أو بمعنى آخر زالت عنه في تلك الحال صفة الإنسان، المريد المختار.وقد عرضنا لبحث هذه القضية، من قبل، في مبحث خاص، تحت عنوان: مشيئة اللّه، ومشيئة الإنسان، عند تفسيرنا لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [111: الأنعام].قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ} هو عرض لمظهر آخر من مظاهر قدرة اللّه وهو أنه سبحانه وتعالى، هو الذي ينشئ هذه السحب الثقال، المحملة بالماء الغزير، ويسيّرها في جوّ السماء، كما يسير السّفن على الماء، وأنه سبحانه يرسل من بين تلك السّحب بروقاً لامعة، هي إشارة سماوية تشير إلى قدرة اللّه سبحانه وتعالى، حيث تنطلق تلك الشرارات النارية الملتهبة، من هذا الماء الذي تحمله السحب..!وفى قوله تعالى: {خَوْفاً وَطَمَعاً} إشارة إلى أن هذه البروق الراعدة تثير في النفوس مشاعر مختلفة مختلطة.. فيخافها بعض الناس، ويخشى أن تكون صواعق مرسلة بالهلاك، كما يقول سبحانه وتعالى بعد ذلك {وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ}.على حين يرجوها بعض الناس، وينتظر الغيث الهاطل من ورائها.وإلى هذا المعنى ذهب أبو الطيب المتنبّى حين يقول:قوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ}.المحال: الحول، والطول، والقوة.والمعنى: أن هذا الرّعد الذي ينطلق من السّحب، مدويّا هذا الدوىّ الذي يملأ الآفاق، هو صوت منطلق في الوجود، بين يدى تلك السحب المحملة بالغيث، ينادى بحمد اللّه، ويهتف بكل موجود أن يصحو من نومه، ويفيق من غفلته، ليستقبل هذه الرحمة المرسلة بحمد اللّه، والشكران له، على ما ساق إلى عباده من نعم! وفى جعل {الرَّعْدُ} مسبّحا بحمد اللّه إشارة إلى أن الرّعد دائما يصحبه المطر، وهذا يعنى أنه يبشر بتلك النعمة، ويزفّ إلى من يسمعون هذا الصوت، أن رحمة اللّه قريب منهم، إذ كان من شأن الرعد أن يتبعه المطر دائما.. وليس كذلك البرق، الذي قد يصحبه مطر، وقد لا يصحبه، وهو الذي يسمّى البرق الخلّب، أي الذي يخدع، حيث يوعد بأن وراءه مطرا، ثم يخلف هذا الوعد.وليست الإشارة إلى تسبيح الرعد، إلا إلفاتا للإنسان، ودعوة له إلى أن يسبّح ربه ويحمده، وإلّا، فإنّ كل شيء يسبح بحمد اللّه دائما، كما يقول سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.وقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} معطوف على قوله تعالى {الرَّعْدُ} أي يسبح الرعد بحمد اللّه، وتسبّح الملائكة من خيفته، أي من خوف ربّهم، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى عنهم: {يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [50: النحل].قوله تعالى: {وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ}.الضمير {هم} يراد به المشركون باللّه، الذين لا يرجون رحمة اللّه، ولا يخشون عذابه.فلا يحمدون اللّه على تلك النعم التي أفاضها عليهم، مع أن هذه النعم ذاتها تسبّح اللّه وتحمده، أن جعلها رسول خير للنّاس، ومصدر حياة لهم.فكيف لا يحمدها، ولا يشكر للّه من أجلها، من كانت حياتهم معلقة بها، ووجودهم رهن بوجودها؟ أليس ذلك ضلالا وسفها وكفرا؟ وبلى.. إنه الضلال والسفه والكفر! ثم إذا كان الملائكة، وهم ما هم عند اللّه.. يخافون ربّهم، ويسبحون بحمده، ويشكرون له، فكيف بهؤلاء المشركين الضالّين.. لا يخشون اللّه، ولا يخافون بأسه وعقابه؟ لقد غرّهم باللّه الغرور.. إنّهم يجادلون في اللّه، جدال من ينكره، ويجحد نعمه، ويستخفّ ببأسه! وهو سبحانه آخذ بناصيتهم.. إنه ذو الحول والطول، شديد العقاب.. لن يفلتوا منه، ولن يخلصوا من عقابه.{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}.فى هذا تسفيه لهؤلاء السفهاء الذين يصرفون وجوههم عن اللّه، فلا يدعونه، ولا يلجئون إليه، وهو الحقّ الذي إذا دعى سمع، وإذا سئل أجاب، وأعطى.. ولكنهم يدعون من دونه من لا يسمع ولا يجيب! {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} [5: الأحقاف].وفى قوله تعالى: {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ}.تصوير كاشف لهذا الضلال الذي عليه هؤلاء المشركون، وهم يمدّون أيديهم إلى تلك الدّمى التي عبدوها من دون اللّه، وعلّقوا آمالهم بها، وانتظروا الخير الذي يرجونه منها.. إنهم لن ينالوا شيئا.. إنهم مع آلهتهم تلك كمن يبسط يده إلى الماء، يدعوه إليه أن ينتقل من حيث هو، حتى يبلغ فاه، ويرتوى منه! وهيهات.. فإن الماء لا يسمع له، ولا يستجيب لدعائه.. {وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}.إنه دعاء لا يجد له أذنا تسمع، أو عقلا يعقل، أو لسانا ينطق! والسؤال هنا:كيف كانت المعبودات التي يتخذها المشركون آلهة لهم من دون اللّه- مقابلة في هذا التشبيه للماء.. مع أن الماء فيه حياة ونفع لمن يتصل به! ويحسن أورد إليه؟.. فهل في هذه المعبودات شيء، مما في الماء من خير ونفع، حتى يقع الشبه بينها وبين الماء؟والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو أن المنظور إليه في هذا التشبيه، هو العابدون لا المعبودون، وهؤلاء المشركون الضّالون، لا المعبودات التي يعبدونها.. وذلك أنهم في هذا التشبيه ينكشف سفههم وضلالهم، وحماقتهم، وأنهم والماء قريب منهم، والظمأ يشوى أحشاءهم، لا يعرفون- لجهلهم وسفههم كيف ينالون منه حاجتهم، فيبسطون أيديهم إلى الماء، ويهتفون به أن يدنو منهم، ويدخل أفواههم..!والحاجة- كما يقولون- تفتق الحيلة، وحاجة القوم إلى الماء شديدة، والوصول إليه، والارتواء منه سهل ميسور، يتهدّى إليه الحيوان بفطرته، ولكنّ القوم قد أفسدوا فطرتهم، وعطّلوا عقولهم، فلم يكن لهم ما للحيوان الأعجم من حيلة! ولو كان المشبّه به، المقابل للمعبودات، شيئا غير مرغوب ومطلوب، لما وقف القوم منه هذا الموقف الحريص المتلهف، ولما اشتد بهم الكرب، واستبدّت بهم الحسرة، حين طال وقوفهم عليه، ثم لم ينالوا شيئا منه! ومن جهة أخرى.. فإن من بين هذه المعبودات التي يتخذها المشركون آلهة لهم من دون اللّه، ما فيه نفع وخير، كالملائكة، وبعض الصّالحين، الذين قيل إن ودّا وسواع، ويغوث، ويعوق، كانوا من صالحى العرب، فلما ماتوا صنعوا لهم التماثيل، وأطلقوا عليها أسماءهم، ثم عبدوهم.فالملائكة، وهؤلاء الصّالحون من عباد اللّه، ممن عبدهم الناس، أو اتخذوهم شفعاء لهم عنده- هم أشبه بهذا الماء، الذي فيه رىّ وحياة، وأنّ من يسلك سبيلهم، ويتأسّى بهم، ويرد موارد التقوى التي وردوها- يجد الرىّ لروحه، والحياة لقلبه.. ولكن المشركين لم يحسنوا التعامل معهم، والانتفاع بهم، فهلكوا، وطريق النجاة دان منهم، ماثل أمام أعينهم! قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ}.هو قهر للمشركين وإذلال لهم، وأنّهم من حيث لا يريدون، ولا يدرون، هم منقادون للّه، خاضعون له، إذ كانوا تحت سلطانه القاهر، وإرادته النافذة.فهم إذ لم يعبدوا اللّه اختيارا وولاء، عبدوه كرها واضطرارا.. وأنفهم في الرّغام، ومصيرهم إلى النار، لأنهم عصوا اللّه، وكفروا به، وأبوا أن يعطوه ولاءهم مختارين! وليس هذا شأن المشركين وحدهم.. بل إن الوجود كلّه، في سماواته وأرضه، وما في سماواته وأرضه، ساجد للّه، خاضع لعزته وجبروته، منقاد لإرادته ومشيئته.. فالمراد بالسجود هنا، الخضوع والانقياد {طَوْعاً وَكَرْهاً}!.والوجود كلّه- ما عدا الإنسان- يسجد للّه، ويخضع لإرادته، وينقاد لمشيئته {طوعا} من غير تردد، إذ لم يكن فيها- كما نعلم- كائن ذو إرادة، تضعه أمام أوامر اللّه ونواهيه بين الإقدام والإحجام، وبين الامتثال، والعصيان.. فيطيع وهو مريد، ويعصى وهو مريد.. الأمر الذي ليس لكائن غير الإنسان.. وفى هذا يقول تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} [11: فصلت].أما الإنسان، فهو الكائن المريد، الذي تقوم في كيانه قوة موجهة، هي التي تذهب به يمينا أو شمالا، وتقيمه على أمر اللّه، أو تخرج به عنه.. فإذا استجاب لأمر اللّه، واتبع سبيله كان نغما متجاوبا مع هذا الوجود المنقاد للّه طوعا وإذا لم يستجب للّه، وخرج عن طريق الحق الذي دعاه إليه، كان نغما شاذا، ثم كان في الوقت نفسه منقادا للّه {كرها}.لأنه واقع تحت سلطان اللّه، منقاد لمشيئته.. فما على هذا الإنسان الجهول لو انقاد للّه طوعا، كما هو منقاد كرها؟وفى قوله تعالى: {وَظِلالُهُمْ} إشارة إلى أن ظلال هذه الكائنات،- ومنها الإنسان- منقادة للّه سبحانه وتعالى، ساجدة لجلاله وعظمته.. فحيثما وقعت أشعة الشمس على كائن من الكائنات، وقع ظلّه على الأرض.. فكان ذلك منه سجودا للّه، وولاء له.. إنه لا يملك الظل إلا أن يقع على الأرض.وقوله تعالى: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ}.الغدوّ: جمع غدو، مؤنثه غدوة.. وأصله غدوو.. على وزن فعول فأدغمت الواو في الواو.. والغدو، والغدوة، أول النهار.والآصال: جمع أصل، والأصل: جميع أصيل.. مثل نذير ونذر.. والأصيل آخر النهار.وفى قصر سجود الظلال على الغدو والآصال، عرض واضح لسجود هذه الظلال، حيث تكون ظلال الأشياء في أول النهار وآخره ظاهرة ممتدة، يبدو فيها ظل الشيء أضعاف أصله، ثم ينكمش رويدا رويدا، حتى يقع تحت قدميه عند الزوال، ثم يبدأ في الطول شيئا فشيئا، حتى يعود كما بدأ أول النهار، في طوله وامتداده، أضعافا مضاعفة. إنها دورة كاملة للظل على الأرض، أشبه بدورة الأفلاك في مداراتها.وأقرب شيء إلى الإنسان، وألصق الأشباه به، هو ظلّه.. وهذا الظلّ يسجد للّه.. فإذا كان الإنسان مؤمنا سجد، وسجد معه ظله.. وإذا كان كافرا يأبى السجود للّه، فإنه ساجد للّه- كرها- بظله هذا الذي يسجد للّه غدوة وأصيلا، وما بين الغدوة والأصيل.. فهل يستطيع أن يحول بين ظله وبين أن يسجد للّه؟ فليجرب إذن.. وسيجد أنه كما لا يملك أن يمنع ظله من السجود للّه، والانقياد للّه، فإنه لا يملك نفسه من الانقياد للّه، والخضوع لسلطانه القائم عليه، في كل حركة يتحركها، أو نفس يتنفسه.. وليجرّب مرة أخرى إن كان يستطيع الخروج عن سلطان اللّه! وهل يستطيع مثلا أن يعيد نفسه إلى الشباب إن كان شيخا؟ وهل يستطيع أن يدفع عن نفسه عادية الجوع إذا امتنع عن الطعام يوما أو أياما؟ وهل يستطيع أن يغلب النوم فلا ينام أبدا؟ ثم أيستطيع أن يفرّ من الموت الذي هو ملاقيه يوما؟ أليست هذه، وآلاف غيرها من الضرورات القاهرة التي تتحكم في الإنسان، وتأخذه من مقوده- أليست من مظاهر الخضوع للّه، طوعا وكرها؟ وبلى! وإن اللّه سبحانه وتعالى ليقول:{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ} [33: الرحمن].
|